لن أسامح مجرمي الحرب أبداً، ولن يعود لي حقي إلا عبر محاسبتهم، هم ومن تحالف معهم وأغمض عينيه عن الجريمة.

كتابة: كنان العضم
رسومات: عمار بويضاني

مقدمة

لكل إنسان حكايةٌ يرويها بقلبه. ذاكرةٌ تعبر روحه وعيناه قبل لسانه. وحتى لو حاولت دفن الذاكرة سيبقى الأثر حاضراً. أعلم أنّ فداحة المأساة لم تقتلْ ذلك الصدق والحماسة للحياة في داخلي، ولم يخفتْ صوت الحق في أذنيّ. لمعرفتي بأنّ المعاناة جزءٌ متأصلٌ في تجربة الإنسان خلالها يعرف نفسه والعالم أكثر. والأهم بكل الأحوال أن لا تنسى الضحية نفسها ولا تسامح جلادها.

طفولتي، أصفها بكلمتين: بسيطةٌ وعاديةٌ، كما معظم السوريين ممن أحببتهم وعرفتهم. ولدت في منطقة ركن الدين الشعبية في دمشق، وبقيت فيها لحين بلوغي الثمان سنوات، لننتقل بعدها إلى منطقة التل في ريف دمشق بسبب عاصفة ارتفاع أسعار المنازل في المدينة. لم أشعر بالغربة أو الاختلاف في التل، لكن يبقى لحارتي القديمة دفءٌ خاص يعبرني كلما مررت بها.

أنا وعائلتي.. والحي

كان أبي متوسط الحال، عَمِلَ في مجال خياطة المنسوجات. له ثلاثة شبان أنا أكبرهم. أحبُّ طقوس أسرتنا التقليدية، مثل اجتماع العائلة على طاولة الغداء عند عودة أبي من العمل. وكطالب في المدرسة الصناعية لم أكن متفوقاً، لكنني لم أتهرب يوماً عنها. كنت أجدها جميلة مقارنة بباقي مدارس دمشق، كانت مخابرها جديدة وأساتذتها شغوفين، وبسببهم أحببت بعض المواد الدراسية كالكهرباء والرياضيات.

كان أبي يدفعنا للعمل في عطلة الصيف على أن لا نبتعد عن دراستنا، وبدورنا ساعدناه في إعالة الأسرة. أول عمل امتهنته كان رفقة والدي في مجال الخياطة، أما عملي الثاني، فكان في سوق الحريقة بدمشق. حيث خضت تجربة مختلفة بالكامل واكتسبت منها الكثير، بسبب الاختلاط بفئة التجار بطبيعة تفكيرهم العملية والمادية التي لم أعهدها من قبل. بعدها عملت في مجال المطاعم وأيضاً توصيل الطلبات، وأيضاً في محل لبيع الهواتف.

اكسبتني معظم هذه التجارب الكثير على مستوى الخبرة الإنسانية. واجهت أناساً سيئين في العمل بالتأكيد، لكنني أراها تجارب غنية. هنالك ذكرى تحفر قلبي في تلك السنوات عندما نهب مني صاحب محل الهواتف مكافأة أعطاني إياها زَبونٌ بعدما ساعدته، لليوم أستغرب أنانيته الوضيعة. ورغم هذه التجربة وغيرها، إلا أنني لم أغضب يوماً في العمل لمعرفتي أنها فترةٌ مؤقتةٌ وحسب.

في المنزل لم تكن السياسة موضوعاَ يومياً نتحدث به. ورغم ذلك فإن موقفي المعادي للنظام السوري تمتد جذوره  إلى ما قبل الثورة. في عام 2006 نصّبت حربُ تموز كلًّ من بشار الأسد وحسن نصر الله كأبطالٍ يحاربون اسرائيل. كان عمري أربعة عشر عاماً، وكنت متأثراً بما يجري كحال أي مراهق. عدت للمنزل حينها وأخبرت أبي أن بشار الأسد بطلٌ حقيقي. رمقني بنظراته ولم يتكلم إلى حين نوم أخوتي. وبعدها حدثني عن إجرام النظام السوري في الثمانينيات، فقد كان أبي حينها عسكرياً في فرع فلسطين الأمني أثناء خدمته الإلزامية. أخبرني عن الجثث التي كانوا يخرجونها كل يوم بأكياس الطحين من داخل الفرع. كان يخشى أن اندفع باتجاه النظام السوري؛ وبالفعل فإن كلامه غيّر رؤيتي بالكامل نحو بشار الأسد والنظام. لعلمي بمصداقيته فهو لم يتعامل مع النظام، كما أنه أبي ولم يكذب عليّ.

بعد ذلك بثلاث سنوات أثناء دراستي الثانوية، كان هناك مجموعة من الطلاب زملائي من منطقة عش الورور. كانوا يتحدثون عن انجازات بشار الأسد في المدرسة، لم أستطع السكوت وقاطعتهم بقولي إنّه كلبٌ لا أكثر. استنفرت كلّ المدرسة حينها، وحادثني المدير قائلاً ” ألا أنطق بهذا الكلام حتى بيني وبين نفسي”. كنت خائفاً كثيرا وتغيبت عن المدرسة لعدة أيامٍ، ولم أُخبر والدي بما جرى. ومن الجيد أنه في السنة اللاحقة لم ألتقِ بنفس الطلاب، فقد رسبوا بينما نجحت. وأظن أن هذا الخوف الذي انتابني حينها دفعني إلى الرغبة بالانتقام، التي ظننت أن بإمكاني تحقيقها عبر التطوع في المخابرات العسكرية.

عَلِمَ أبي برغبتي هذه، وحاول هو وعمي منعي عن هذا الفعل. أذكر كلمات عمي بأنهم سيغسلون دماغي عندما التحق بهم، أما أبي فقال إنه سيتبرأ مني إن تطوعت، تراجعت عن فكرتي بالكامل بالطبع. وأظن أنني حينها كنت مدفوعاً للتطوع بسبب معدلي المتدني بالثانوية، إذ أنه لم يؤهلني للالتحاق بأي فرع جامعي. وبالنهاية أعدت امتحان الثانوية العامة وتمّ قبولي بالمعهد الصناعي بمدينة حماة.

الربيع العربي والبدايات

قُبيل اندلاع الثورة بشهرٍ تقريباً كنت أتابع الحراك الثوري في تونس ومصر، كان لدي شعورٌ قوي باقتراب العدوى إلينا. وفي يوم الرابع عشر من آذار أثناء متابعتي لقناة الجزيرة، شاهدت خبراً عن دعوةٍ إلى مظاهرة في دمشق في اليوم التالي. لم أصدق بدايةً، وحين عدت للمنزل تابعت ووالدي الأخبار، وعلمت أنها ستبدأ في منطقة الحريقة، لكن للأسف لم أستطع المشاركة، فصاحب العمل كان يعلم بميولي لذلك قيدني بالدوام. حذرني مراراً من أفكاري، لم أجادله لعلمي بأن هذه الفئة من الناس منتفعة ولن تتكلم بالحق حتى لو علمت به.

بدأت المظاهرات في منطقتي (التل) في 18 آذار. قصد المتظاهرون دمشق، وعندما وصلوا (معربا) تراجعوا، فأهلها كانوا وشاةً ومؤيدين. بعدها انكفأت المظاهرات داخل مدينة التل،  وكنت دائماً أذهب للصلاة يوم الجمعة في المسجد الذي ستخرج منه المظاهرة. كانت تحدث مناوشات بيننا وبين عناصر الأمن، كانوا يرموننا برصاص الخردق ونبادلهم برمي الحجارة، وفي إحدى المناوشات أصبت بأصبع قدمي. في تلك الليلة صورني أحد رجال الأمن بهدف اعتقالي لاحقاً، لذلك حلقت شعري لأخفي ملامحي. هذه اللحظات كانت تصيبني بالحماسة بدلاً من التراجع، وفي الأسبوع التالي خرجت أيضاً، وكدنا نعتقل أنا وأخوتي رغم أنهما خرجا في مظاهرتين مختلفتين. حاول أحد الشبيحة وقتها اللحاق بي وهربت ركضاً نحو المنزل، ليخبرني أخواي أيضاً أنهم كانوا على وشك الاعتقال. هذه اللحظات أحبها كثيراً وتشعل فيني حماسة تلك الأيام.

في التل لم اعتقل، أما أخواي فقد تعرضا للاعتقال لمدة أسبوع تقريباً. كنت قلقاً عليهما ضعف خوفي على نفسي. واعتقد أن شعوري أثناء اعتقالي أهون على قلبي من الخوف عليهما. وربما يعود ذلك لكوني الأخ الأكبر، وإحساسي بالمسؤولية اتجاههما.

إلى حماة

مع بداية الفصل الدراسي الجامعي انتقلت إلى مدينة حماة التي أحببتها لحظة رؤيتها. كانت تشبه دمشق كثيرا، بسيطة وحميمية كما أحياء الشيخ محي الدين، ولكنها تحمل دماً في سرها، وألماً كبيراً في جعبتها. نفحني الغبار الحزين لآثار المباني المدمرة هناك. وسمعت الكثير من القصص عن الدمار الذي ابتلع المدينة في الثمانينيات. كان الحكايات رهيبة، وهي الدليل الوحيد على شلال الدماء الذي حدث، إذ لم يكن هناك إعلامٌ قادرٌ على كسر الجدار الأمني الذي شيده النظام وقتها. وأظن أن الذي حدث في سوريا أثناء عشرة أعوام من الثورة، وقع في حماة خلال أربعين يوماً.

تلقيت ترحيباً كبيراً في المعهد الصناعي عندما علم الطلاب أنني قادم من دمشق. لم يكن هناك صورة نمطية عن الدمشقيين باعتبار أغلبيتهم مؤيدين للنظام. وتعرفت في المعهد على ثلاثة أصدقاء. هم، حتى الآن،أقرب الناس إلى قلبي رغم تباعدنا جغرافياً، فأحدهم في ألمانيا، والآخر في دبي، أما أعزهم هو الآن في تركيا. هؤلاء هم من عرّفوني على المدينة ومن شاركتهم المظاهرات. 

في حماة تختلف المظاهرات عن دمشق والتل. فالتواجد الأمني داخل الأحياء ليس بكثافة العاصمة، كما أن معظم الناس على يد واحدة لا وشاة بينهم، والتظاهر هو واجبٌ على الجميع. كان لدي ثقة أكبر في الحمويين، وشهدت حماساً للقضية لديهم لم أعهده في دمشق. كانت المظاهرات تتسم بروح الاحتفال، حيث ترى أطفالٌ تغني، وبائعون جوالون، كما أن أغاني الثورة هناك جميلة جداً. وقد كنت أنقل بعض الأناشيد التي أسمعها إلى التنسيقيات في مدينة التل أثناء زياراتي. ولكن بعد اقتحام الأمن لحماة انحسرت المظاهرات من ساحة العاصي إلى الأحياء المحمية تتخللها اشتباكات مع الشبيحة، وتقع بعض الإصابات التي يتمُّ إسعافها في الحال.

في سنتي الثانية في المعهد قررت وزارة التعليم بنقل الطلاب في الجامعات إلى مدنهم نظراً إلى تردي الأوضاع الأمنية. عدت إلى التل، وبعدها ببضعة أشهرٍ حدثَ انفجارٌ جانب مبنى معهدي في دمشق ليتوقف الدوام الرسمي. لم أستطع في هذه الفترة الابتعاد عن أصدقائي في حماة وعدت إلى زيارتهم في شهر تموز من عام 2012. أذكر أن الطريق الدولي تم قطعه حينها وشعرت أن انهيار النظام قريبٌ جداً. حينها أخبرني أصدقائي أن أبقى في حماة لأحتفل بسقوط النظام في ساحة العاصي، بينما كنت أجيبهم أنني أريد الاحتفال بساحة الأمويين في دمشق. وعندما عدت كان الجيش الحر قد سيطر مدينة على التل ليشتعل قلبي تفاؤلاً. ولكن رغم دعمي للجيش الحر إلا أنني لم أرغب يوماً في مشاركتهم حمل السلاح. ربما أردت أن يكون هناك جيشٌ ينتمي لي ويحميني. واعتقدت أنه بإمكاني المساعدة في مجال الإعلام والتصوير ولكنني رفضت حمل السلاح.

الاعتقال

في عام 2013 عدت إلى زيارة أصدقائي في حماة، وكذلك للحصول على بعض الأوراق الرسمية من معهدي. كان هناك مظاهرة كبيرة في المعهد الصناعي، وبعدها بيومين حصلت مداهمة أمنية للجامعة آنذاك نجوت وأصدقائي، وأثناء ذهابنا لمنزل أحدهم وفي منطقة القصور أوقفنا حاجز أمني، ليجدوا أنني مطلوبٌ لديهم، أما صديقي فلم يجدوا شيئاً ضده. أثناء توقيفي قام أحد العناصر بتفتيش هاتفي، ووجد العديد من الصور لأردوغان، ولبعض مقاتلي الجيش الحر والثوار، وقرأ العديد من المحادثات. حاول صديقي أن يرشيهم من دون فائدة. كان ذلك في الثالث عشر من شهر يناير في الساعة الواحدة ظهراً. وبقيت محتجزاً لدى الحاجز لمدة أربع ساعات خلالها ضربوني كثيراً، ومن ثم نقلوني بسيارةٍ أمنية كانت تنقل أربع معتقلين وكنتُ خامسهم، وبدأ عناصر الأمني بضربي مجدداً، وعند كل حاجزٍ نمرُّ به يعاودون ضربي لدرجة أن أحدهم أراد ذبحي بالسكين.

عند دخولي الفرع أخذوا أغراضي و عاودوا ضربي مجدداً، وتم نقلي إلى سجنٍ جماعي به ثمانية عشر معتقلاً غيري، غفوتُ فور دخولي، وبعدها بساعة واحدة أخذوني إلى التحقيق. بدأ المحققون بتعذيبي وسؤالي عن الصور في هاتفي، وكنت أجيبهم أنني تحصلت عليهم من منصة اليوتيوب. بعدها وضعوني في زنزانة منفرد لمدة ستة وعشرين يوماً خلالها تم التحقيق معي أربع مرات مستخدمين شتى أنواع التعذيب، وفي إحداها أخبروني أن أصدقائي اعترفوا بأننا حملنا سلاحاً ضد الجيش، ولكنني لم استسلم وأنكرت الأمر برمته. كانت كل الاحتمالات في رأسي، فلربما كانوا يلفقون القصة برمتها، ولم أستبعد أن يعترف أحد أصدقائي بشيءٍ ما تحت التعذيب، ولكنني ظللت صامداً أمامهم. وبالفعل علمت بعدها أنهم جلبوا أصدقائي لمشاهدتي أثناء التعذيب. 

خلال مدة اعتقالي في حماة انشق بعض العناصر وحدث إطلاق نار داخل الفرع، ولكن المنشقين استطاعوا الهرب. طبعا علمت بذلك لاحقاً، فقد أخبرونا حينها أنّها كانت اشتباكات مع المسلحين.

بعد مرور شهر تقريباً بصمتُ على عدة أوراقٍ لم أقرأها، وتم نقلي إلى سجن حماة، ومن ثم إلى تجمع في حمص من أجل نقلنا إلى محكمة الإرهاب في دمشق. كان عددنا اثنين وسبعين شخصاً وصعدنا في ثلاث سيارات كانت مخصصةً لنقل اللحوم. سائق سيارتنا كان أرعناً في القيادة وبالفعل اصطدم بشاحنة على الطريق السريع، ليتوفى السائق وعددٌ من العناصر بالإضافة إلى واحدٍ وعشرين معتقلاً.

انتشر الجيشُ في موقع الحادث من أجل منع هروب المعتقلين. بدأنا بمساعدة بعضنا كان بقربي أخوين، قال لي أحدهم أن أتركه وأساعد أخاه، لكنه لم يكن يعرف أن أخاه قد فارق الحياة. بعد فترة نقلوا المصابين والمتوفين إلى مستشفى الشرطة، بينما نقلوني مع الآخرين ممن كانت إصاباتهم خفيفة إلى مركز الطبابة في سجن عدرا. وهناك منحونا بعض المسكنات، ثم تمّ وضعنا في غرفة الإيداع، لنتحول بعدها إلى فرع الأمن السياسي.

حين وصلنا الفرع باشروا بسؤالنا عن حادث الاصطدام، وعندما انتهينا من رواية ما حدث سألونا ساخرين إن كانت أقدامنا مازالت سليمة كي يجلدوها . ومباشرةً أنزلونا عبر درجٍ في نهايته ساحةٌ، وقبل فرزنا إلى الغرف بدأوا بضربنا، كنت أستمع إليهم يقولون”أعطه الحرية التي يريدها” ، ليتمَّ جلدنا بسوط يسموه (الأخضر الابراهيمي).  أصبح لون جلدي أزرق من كثرة الجلد، ولم أعد قادراً على الإحساس به. اقترب مني الجلاد وقال في أذني: “اسمي ياسر، تذكره جيداً كي تنتقم مني عند خروجك من هنا”. أحسست بمدى حماقته وكراهيته كي يعتقد أنني سأفعل مثلهم.

أدخلوني إلى زنزانة جماعية كانت بحدود المترين بثلاثة أمتار، يقطنها سبعة وأربعون معتقلاً، سألت المعتقلين كيف لي أن أنام وأجلس؟، أجابني أحدهم ساخراً أنهم سينقلونا إلى غرف أوسع في الليل ريثما ينتهي التحقيق، وقد صدقته وعدت لسؤاله بعد عدة ساعات ليضحك من بلاهتي، حينها نهض أحد المساجين وطلب مني أن أجلس مكانه لأرتاح.

بقيت خمسة أيام حتى تم استدعائي أول مرة للتحقيق، أمسك المحقق إضبارتي في فرع حماة، وقال إن اعترافاتي الموجودة ربما تنطلي على المحققين هناك لكن ليس عليه، ثمّ بعد ذلك مزق الاضبارة. كان أشقر اللون نحيلاً، ذا شعرٍ طويل، ولهجته تدل على أنّه من الغاب السوري، حسب ما أعتقد. قال لي لنبدأ من جديدٍ، وسألني عن أشخاص في مدينة التل لم أكنْ أعرفهم، ومن ثم اتهمني بحمل السلاح. أجبته بأنني لم أؤدِ خدمتي الالزامية بعد، ولا أعرف كيف أحمل سلاحاً حتى، ليبدأ بالصراخ وضربي بوحشية. أجبته بالنهاية بأنني لا أمتلك سوى صورٍ لأشخاص يحملون أسلحة. صمت وطلب مني، أن لا أتكلم مع أحد في المهجع وبأنه سيخرجني في اليوم التالي. 

عدت للزنزانة وأخبرت بعض المعتقلين بما جرى في التحقيق، وعن اتهامهم لي بأنني أحمل سلاحاً. صرخ بوجهي أحد المساجين: “هل جننت، كيف تخبره بذلك؟”، وطلب مني أن أنكر أي شيء في التحقيق القادم، إذ يبدو أن المحقق يريد أن يقودني إلى المشنقة. أجبته بأنني تعرضت للضرب كثيرا، فقال: ” لو كان قدرك الموت لحدث ذلك في حماة أو في حادث السير” هذه الكلمات منحتني قوةً عظيمة.

التحقيق

في اليوم اللاحق استدعاني المحقق كي أكتب الضبط ، وطلب مني كتابة ما اعترفت به بالأمس. قلت له أنني اعترفت لكي تتوقف عن تعذيبي، وهنا فقد عقله وبدأ بضربي بكل شيءٍ يقع في يده، ومن ثم علقني من المعصمين عالياً، وأمسك بقطاعةٍ معدنية وبدأ يقتطعُ بعضاً من لحمي. غبتُ عن الوعي وحين صحوت وجدت نفسي بالزنزانة، ورأيت قدمي قد ضًمدت بشاشٍ طبي وعرفت أنّه استأصل لحماً من إصبع قدمي. بعدها بثلاثة أيام أعادني إلى التحقيق وسألني ذات الأسئلة، لكن من  دون أن يعذبني، فقد رأى أنني على وشك الموت. قلت له: “هل تريدون أن أموت؟”، أجاب: “لا”، فقلت مؤكداً بأنني لم أحمل سلاحاً، ولا أملك سوى المقاطع المصورة على هاتفي. 

أخذني بعدها أحد العناصر إلى غرفة فيها أربعة معتقلين وكنت خامسهم، قيدنا من معاصم أيدينا ثم تمّ ربطنا بحبل يتدلى من السقف، بعد ذلك غادر العنصر. كنت أسحب يدي بين حينٍ وآخر من الطوق المعدني، إذ كانت صغيرة وباستطاعتي تحريرها. لأفك المعتقلين بعد ذلك ليرتاحوا قليلاً ونشرب الماء، ومن ثمَّ نعود ونقيد أنفسنا مرة أخرى. كان يتفقدنا العنصر كلَّ حينٍ، وعندما رآني طليقاً ضربني وعاد إلى تقييدي بإحكامٍ.

أعادوا التحقيق عدة مرات وبقيت متشبثاً بموقفي رغم التعذيب، وفي إحدى المرات حدث انفجارٌ كبيرٌ أمام باب الفرع. فجأة قال لي المحقق: “لا تخف سوف، نسيطر على الوضع. أنت بحمايتنا”، كان فزعاً لاحتمالية اقتحام الجيش الحر المبنى. كانت رؤيته خائفاً أمراً مثيراً للغبطة، بدا كما لو أنه مصابٌ باضطرابٍ في الشخصية، وكان تحوله المفاجئ غايةً في السخرية. 

في آخر لقاءٍ مع المحقق عرضَ علي صورةً لشهيدٍ أعرفه. ثمَّ سألني أين هو؟، أجبته بأنه استشهد، فصرخ: ” بل فطس، ونحن من قتلناه”، فلت له:” لقد استشهد بقذيفة من الجيش”. شتمني وافتتح معي النقاش العقيم المعتاد حول الصور والمقاطع الموجودة على هاتفي، وبالطبع لا يخلو أي تحقيق من التعذيب والضرب. فجأة تلقى مكالمة هاتفية من صديقته المقربة، وعندما أغلق الهاتف نظر إليّ بوجهٍ مختلف سائلاً: “هل لديك صديقة؟”، قلت لا، وصعقت بقدرة هؤلاء على التحول فجأة، وكيف يصبح التعذيب جزءاً من وظيفتهم الإدارية، لدرجة أنهم يظنون أننا نتفّهم دورهم ووظيفتهم. لقد تحولوا بالكامل إلى آلات ميكانيكية للتعذيب والقتل.

في تاريخ الحادي والعشرين من شهر آذار ليلة اغتيال (البوطي).  قالوا لي إن رئيس الفرع يريد مكالمتي. مشيت مع المساعد إلى الهاتف وفي طريقنا هددني بالقتل إن أخبرت رئيس الفرع عن التعذيب الذي تعرضت له. التقطت السماعة وسمعت صوت العميد يسأل: “عندما خرجت من البناء هل كان هناك اقتتال؟”، أجبته بأنني لم أفهم شيئاً ولم أقل شيئاً مشابهاً. تكلم بعدها مع المساعد، انتهت المكالمة وأمرني بالبصم على عدة أوراق لم أقرأها كالعادة، وبعدها بأربعة أيام أخرجوني من الفرع. 

نقلوني إلى الشرطة العسكرية ومن ثمَّ حُولت إلى محكمة الإرهاب، تمَّ إيداعي بسجن عدرا، لتستمر محاكمتي مدة عامين على ست جلسات، حضرها أربع قضاة، وخلال الجلسات علمت بالاتهامات التي كنت قد بصمت عليها في الفرع، وكان من ضمنها الاعتراف بأنني طلبت من أحد عناصر المجموعات المسلحة داخل مبنى سكني بأن أحمل بندقيته لألتقط صوراً بها، وعندما أخذتها أطلقت أعيرة نارية باتجاه الجيش في الهواء، ليأخذها رئيس المجموعة من يدي في النهاية. وقتها فهمت مكالمة رئيس الفرع، وكان ردي أمام القاضي: “هل أنت مقتنعة بهكذا حكاية غير القابلة للتصديق؟”.

وفي آخر جلسة ليلة الخامس عشر من شهر تشرين الأول عام 2014 تمت إدانتي بثلاث تهم وهي؛ الإنضمام إلى مجموعة مسلحة، وترويج أعمال إرهابية، وحيازة السلاح الحربي بقصد تنفيذ أعمال إرهابية. وقد تم حكمي بخمسة عشر عاماً، أُسقطت أول تهمتين من الحكم بالعفو العام، لتتقلص المدة إلى سبع سنوات ونصف.

لم يكن بوسعي سوى الصبر. وبكل صدق عندما وصلت سجن عدرا أحسست بأنه يمكنني المكوث لعشرين عاماً مقارنة بما حصل لي في الأفرع الأمنية. فعلى أقل تقدير هناك أشخاصٌ تتعرف عليهم خارج عملية التعذيب. بإمكانك بناء علاقات إنسانية تخفف قسوة تجربتك وتعيدك إلى الواقع الإنساني لتشعر أنك تنتمي إلى مجموعة ستغدو بمثابة عائلتك مع الوقت. أشخاصٌ تضحك معهم وتبوح لهم بآلامك ويفعلون المثل. ولتلك المشاعر أثرٌ كبيرٌ لجدوى الحياة ودافعٌ للصبر. وبالتأكيد كان هناك بعض المساجين من لم يستطيعوا التحمل، منهم من مات ومنهم من فقد عقله. لكنني كنت مؤمنا بأن الصبر هو الحل الوحيد، والآن أشعر بالرضا بأنني لم أتغير خلال فترة سجني رغم وجود بعض الأشخاص السيئين أو المجرمين، فقد بقيت مؤمنا بقضيتي.

سجن طرطوس وسليمان الأسد

بداية عام 2015 جاء أمرٌ بنقلي مع عدد من السجناء إلى سجن طرطوس المركزي والذي كان أسوأ بكثير من سجن عدرا. مكثت هناك لغاية الاستعصاء الذي حصل في شهر تشرين الثاني  من عام 2016. وقد بدأه (سليمان الأسد) الذي كان موقوفاً بسبب جرمٍ جنائي، وكان على خلاف مع العقيد المسؤول عن السجن رغم كل الترف المحاط به. لذلك تعاون مع المقدم (خالد زعرور) لأجل تنفيذ الاستعصاء والإطاحة بالعقيد. طلب من جميع المساجين المشاركة، ورغم رفضنا بالبداية، إلا أنه قام بتهديدنا، ثمَّ بعد ذلك وزّع الكثير من المخدرات على المساجين لحثهم على المشاركة في الاستعصاء. إلا أنّه عندما خرجنا من زنازيننا ووصلنا إلى درج السجن، قال لنا بأن نعود فقد تمت إقالة العقيد.غير أننا رفضنا ومكثنا في مكاننا، وصرخت بوجه المقدم خالد بأننا لن نتراجع عن مطالبنا فهي ليست كمطالب سليمان؛ نحن نريد أن يتمَّ ضمنا في التسويات بين النظام والمعارضة، وأن يتمَّ ترحيلنا إلى إدلب. أمرني المقدم بأن أعود، قلت له لن نتراجع، ووافقني على ذلك جميع المساجين. استسلم لنا وسألنا عن طلباتنا التي بإمكانه تنفيذها؟ حينها طلبت استدعاء وزير المصالحة كي نتفاوض معه. إلا أنّه بدأ بالصراخ في وجهنا، ليأتي سليمان الأسد آنذاك ويسأله عما يحدث. حكى له المقدم عن مطالبنا بالذهاب إلى إدلب، فأجابه سليمان ساخراً: “وأنا أود العودة إلى القرداحة”. بعد ذلك حاول المقدم إقناعنا بأن الأمر مستحيلٌ، فما كان من سليمان الأسد أن قام بوضع سكينه على رقبته، قائلاً: “سوف تجلب لنا الوزراء”. 

فيما بعد بدأ سليمان بالتودد إليّ، وأعطاني هاتفاً لأجل التواصل مع الصليب الأحمر، ومن خلاله قمت بتغطية الاستعصاء كاملاً، ولكن عجز الصليب الأحمر عن المساعدة، وتمت محاصرة السجن بالكامل. ولحق ذلك بدء عملية المفاوضات بين سليمان والوفود القادمة من دمشق. إلا أنه  لم ينتجْ عن ذلك  أي اتفاقٍ، وأتى أمرٌ من بشار الأسد باقتحام السجن.

تمَّ قطع الماء والكهرباء لمدة خمسة أيام، وفي نهاية الأمر اتفق سليمان على تسليم السجن للأمن عبر وساطة قامت بها أمه وأعمامه. اقتحموا السجن و اعتقلونا جميعاً وأولنا سليمان الأسد. وفي التحقيق اعترفت بأنني من قام بتغطية الحدث والتواصل مع الصليب الأحمر، وذلك لخوفي من تهديدات سليمان الأسد. انتهى التحقيق وتمّ ترحيلي إلى عدرا، ومكثت في جناح المعاقبين في الزنزانة المنفردة لخمسة أشهر. عدتُ بعدها لحضور جلسات المحكمة في قضية الارهاب وكذلك في قضية الاستعصاء، ليتمَّ إخلاء سبيلي في شهر كانون الثاني من عام 2020 بعد سبع سنوات كاملة في السجن

الرحيل

بعد إخلاء سبيلي توجهت للشرطة العسكرية لأجل تسوية أوراق الخدمة الالزامية، حصلت على التأجيل باعتباري سجين بتهمة الإرهاب وعدت إلى منزلي في ركن الدين سيراً على الأقدام، كان الخوف من الحواجز لا زال موسوماً في قلبي بعد سبع سنوات من السجن. لم أستطع البقاء في المنزل سوى يومين لأعود إلى السجن من أجل زيارة أصدقائي. هي لحظة غريبة أن ترى سجنك كزائرٍ حرٍّ. فقد سمح لي الشرطي بالدخول خلف جدار الزيارة، كانت لحظة حميمة لقاء أصدقاء السنوات السبع.

لم أفكر أبداً بالخروج من سوريا على اعتبار أن إخوتي مغتربون في الأردن وتركيا، ولم يبقْ معيلٌ لوالديّ سواي. كما أنني أردت الاستمرار بزيارة أصدقائي في السجن. ولكن بعد أربعة شهور لم أستطع تجديد أوراق التأجيل العسكري، وعلِمتُ أن اسمي تم فرزه إلى قيادة مركبات حلب. لم يكن أمامي سوى الحيلة، فأخبرتهم أنني لا أستطيع أن أبصمَ على أوراق تبليغي بالالتحاق إلى الخدمة بسبب ارتباطي بحضور جلسات محاكمة طرطوس. كان لدي ورقة لبيان الدعوى في المحكمة غير أن التصريح بات قديماً، وعبرها احتلت على شعبتي التجنيد في دمشق لمنحي تأجيلاً جديداً. ومع نهاية موعده في شهر أيلول لم أجدْ حلاً سوى الاختباء في المنزل لمدة عامٍ بعيداً عن الحواجز العسكرية، ولكنهم اتصلوا بمنزلنا بعد حوالي السنة، عندها علمت أنه لا يوجد مجال للاختباء وليس أمامي سوى خيارين: الخدمة في جيش النظام، أو الهروب إلى الخارج.

اتخذت قرار الرحيل، وعن طريق بعض الأصدقاء تعرفت على مهرب، أخذني إلى حمص مروراً بدير الزور، ومن ثم مناطق الأكراد. وفي كل منطقة عبرتها كان علي دفع مبلغٍ من المال. وصلت إلى الرقة وانتقلت منها بسيارة أخرى إلى منبح، وهناك مشيت سيراً على الأقدام في المناطق الجبلية، وبعدها اعتليتُ دراجات النارية لأصل إلى جرابلس، وأخيراً جنديرس، ليأتي صديقي ويأخذني إلى إدلب حيث بقيت هناك ستة أيام، إلا أنّه أثناء محاولتي العبور إلى تركيا، تم القبض علي من قبل جبهة تحرير الشام لمدة تسعة أيام. 

هناك كان مركز الاعتقال سيئاً، وكنا حوالي ستمائة شخصٍ. أخبرت عناصر الهيئة أنني كنت سجيناً لدى النظام، فطلبوا مني أن أريهم أوراقاً تثبت اعتقالي، ووحين أخبرتهم أنها في جرابلس و بامكانهم إحضارها، رفضوا الذهاب متعللين بأنّ المنطقة هناك تحت سيطرة فصيل معارض مختلف عنهم. في الحقيقة لم يكن يهمهم سوى الحصول على خمسين دولار من كل شخص كضريبة عبور، غير آبهين بأي شيء، وبالنهاية أتى المهرب ودفع المبلغ المطلوب.

خرجت إلى منطقة التلول وتحصلت على وصل إقامة لمدة ثلاثة أيام مقابل مبلغ مئة دولار، وكان لزاماً علي أن اتمكن من عبور الحدود خلال هذه المدة، ونجحت في ذلك رغم أنّ بعض الأشخاص كانوا يحاولون لأكثر من ثلاثين مرة.

الآن وبعد سنتين من الإقامة في اسطنبول، أنهيت مستويات تعلم اللغة التركية، وقمت بتوثيق تجربة اعتقالي مع اللجنة الدولية للتحقيق في الأمم المتحدة. ورغم الكثير من الصعوبات وتوجسي من قرارات الترحيل، إلا أنني أشعر بالاستقرار على أقل تقدير مقارنة بوضعي في سوريا. وكما كنت مؤمناً بالصبر أثناء سجني، فإني أراه الحل الوحيد الآن، وسأحاول أن أبني حياتي من جديد رغم كل السنوات التي فقدتها من شبابي وابتعادي عن دراستي. لا زلت أريد التعلم وبناء معرفة أكاديمية، وسأحاول سد الفجوة بيني وبين التقدم التكنولوجي والمعرفي الذي غيّر في العالم. هذه الفجوة التي خلقتها سنوات السجن السبعة. هذه المحاولات هي التعافي من الماضي بالنسبة لي.  

أتأمل اليوم رحلتي الطويلة الحالمة المؤلمة.  هل تغير شيءٌ داخلي؟ فقط تأكدت أنني على حق فيما فعلت وبأنني لم أظلم أحداً، وإن أعدت رحلتي لن أغير في مسارها أبداً. منحتني سنوات الاعتقال الشجاعة للتمسك بقول الحقيقة فليس لدي ما أخسره، ولو قتلوني وقتها لكنت ميتاً على الحق. عرفتني تجربتي على النظام من الداخل. عرفت أنه لم يرد يوماً أن يغير فكر أحد؛ فهم مدركون هشاشة فكرهم واستحالة طمس الحقيقة في أعين الناس. لذلك ليس بمقدورهم سوى التوحش وبثُّ الرعب في النفوس.

لن أسامح مجرمي الحرب أبداً، ولن يعود لي حقي إلا عبر محاسبتهم، هم ومن تحالف معهم وأغمض عينيه عن الجريمة. ولن أضع أملاً على حكومات العالم بأن تفعل ذلك، بل تبقى الثقة بالشعوب لكي تضغط على حكوماتها. وعلينا لتحقيق ذلك أن نخبر العالم بقصتنا الحقيقية.