أصبح التوتر رفيقاً ثابتاً في حياتي وصلت إلى حافة الانهيار النفسي في أكثر من مناسبة

كتابة: عفاف خطيب
رسومات: عمار بويضاني

مقدمة

مساء ذلك اليوم من عام 2020، انفجر الحزن والألم في قلبي دفعة واحدة. وما إن اختليت بنفسي بعيدًا عن أعين عائلتي، حتى استولت على روحي المكلومة نوبة بكاءٍ عنيفة، و اجتاحتها أمواجُ الحزن والأسى بلا رحمة. تعالت صرخاتي الصامتة من بين الشفاه المرهقة، وتحولت إلى أشباحٍ ترقص في أروقة الذاكرة، فانهمرت دموعي كسيل من السماء، كانت المرة الأولى التي أبكي فيها بعد كل تلك السنوات من القهر، وتحول كل شيء حولي إلى ظلام عميق، وكأني دخلت إلى عالم مواز تلاشت فيه ضوضاء الحياة وتبدد الوقت في اللاشيء، وعادت شظايا روحي تلامس جدران المدينة التي هُجّرت منها قبل سنوات. هبطت في سوق الهال القديم وأكملت باتجاه المناخلية ثم الكلّاسة وصولًا إلى المسكيّة، فامتدت روحي تستنشق زجاجات العطر وأغلفة الكتب المرصوفة قرب الجامع الأموي، ألقيت التحية على حجارة الحريقة والقنوات، وحين وصلت إلى سوق الخضار في باب السريجة وقفت أتأمل أكوام الخضار المتراصة كأنها فسيفساءٌ نباتية تزين أطراف المكان. في تلك اللحظة أفقت من حلمي الجميل حين مرت سيارة محملة بعفش المنازل إثر اجتياح جيش النظام لقريتي التي نزحت عنها مع عائلتي وأطفالي قبل ساعات تاركاً البيت الذي بنيته حجرًا بحجر .. وللمرة الثانية.

دمشق.. نهر عيشة

الانتقال من مدينة دمشق، التي ولدت وعشت فيها كل عمري، كان من أكثر التجارب المؤلمة التي اضطررت إلى التأقلم معها، فعلى الرغم من أن جذوري تعود إلى هذه القرية إلا أن مغادرة دمشق، ليس مجرد مغادرة مدينة، بل هو هجرُ جزءٍ من هويتي وذاكرتي. كانت علاقتي بالمكان عميقةً ومتشابكة أكثر من مجرد مكان للعيش، فدمشق كانت موطناً يحمل في طياته قصص حياتي وتجاربي ومحطات نموي. كلٌّ شارعٍ وزقاقٍ فيها يحمل ذكرى معينة، هذا المكان كان شاهداً على سعادتي وأحزاني، على أحلامي وتطلعاتي. كان الحي الذي نشأت فيه صورةً مصغرة من سورية، ينتمي السكان إلى محافظات وطوائف مختلفة، جاءوا إلى الحي بقصص تنتمي إلى الأرياف البعيدة والنائية. معظمهم قَدُمَ إلى العاصمة بحثاً عن فرصةٍ أفضل في مجال التعليم وسوق العمل، خاصة بعد الإهمال الذي تعرضت له تلك الأرياف منذ السبعينيات. وكانت أسرتي من بين تلك الأسر التي أتت من قرية الأبزيمو في ريف حلب، واستقرت في مخيم اليرموك الواقع بجوار دمشق. وهناك في عام 1976، ولدت وعشت أول عامين من حياتي في بيتٍ بسيط لا أذكره، قبل أن تتمكن عائلتي من بناءِ منزلٍ متواضعٍ قُرب الميدان، في منطقة نهر عيشة. خلال فترة شبابي عملت في مجال الديكور والجِبس وصادف عملي في بعض الأحياء الثرية والمنظمة مثل أبو رمانة والمالكي، وكان لهذه التجارب أثرٌ كبيرٌ على حياتي، إذ بدأت أتساءل عن أسباب وجود مناطق فاخرة غنية ومنظمة ومناطق فقيرة ومهمشة، لكني لم أتعمق في ذلك السن في أسباب التفاوت الطبقي والفساد المستشري في الاقتصاد السوري، كنت مشغولًا بأحلامي البسيطة، أخطط لبناء بيتٍ منظمٍ يشبه ما كنت أراه في تلك الأحياء من بيوتٍ جميلة. ثمَّ تفرغت لاحقًا لدراستي الجامعية، وانصبَّ اهتمامي بعد التخرج على مهنتي كأستاذ لمادة الرياضيات، شغوفًا بها، وفي عصر ما قبل انتشار الانترنت، كنت أبحث في بسطات الكتب تحت جسر الرئيس عمّا يثري معرفتي ويساعدني في المنافسة في المدارس التي عملت فيها، والتي يعمل فيها أفضل الأساتذة في البلد آنذاك.

زمن الأحلام ..

كنت متفائلًا بتحسين وضعي، إمّا من خلال السفر للتدريس في دول الخليج العربي أو من خلال تحسن الاقتصاد الذي شهِد انفتاحًا مطلع الألفية، حيث بدأنا نرى افتتاح البنوك والمؤسسات المالية، ودخول ماركات عالمية، لكن ذلك لم يحدث، في الحقيقة كان الاقتصاد يتدهور، فرغم عملي المزدهر، وعمل زوجتي، ووجود موردٍ إضافي من الدروس الخاصة، بالكاد كنا نغطي احتياجاتنا، وكانت العائلة بدأت تلحُّ علي لبناء منزلٍ مستقل، كان ذلك في بداية الثورة ولم أكن متأكداً إن كان الوقت مناسباً لمثل هذا المشروع، ولم أكنْ قد حسمت أمري بخصوص المكان الذي سأبني فيه البيت، كنت مترددًا بين حي نهر عيشة أو الانتقال إلى إحدى مناطق الغوطة، وعلى الرغم من امتعاضي من بعض الجوانب التنظيمية في منطقة نهر عيشة، إلا أن انسجامي مع البيئة المحيطة والجيران وقرب المنطقة من مدينة دمشق وأحيائها القديمة التي كان لها مكانة خاصة في قلبي، جعلني أشرع في بناء مسكني الخاص هناك في المكان الذي عشنا على أمل تحسينه من ناحية الشكل والخدمات، إذ كنا نحلم بتجميل مدخل دمشق الجنوبي ليرقى إلى مستوى أحياء المدينة المنظمة. شرعت بتصميم البيت بنفسي، وأشرفت بعناية واهتمام على أدق التفاصيل خلال عملية بنائه، لكن لم تُتحْ لي الفرصة لإنجاز المخطط، إذ قررت التوقف في مراحل الكسوة النهائية، حين صار الحي هدفاً دائمًا لحملات المداهمة والاعتقال التي طالتني وأخوتي، حتى والدي اتهم بتمويل المظاهرات بسبب امتلاكه سوبرماركت. ومع انتقال الحراك الثوري إلى مرحلة العسكرة، التي أُجبر عليها لحماية الثورة، وبعد دخول الجيش الحر وسيطرته على أجزاء من دمشق. دخل جيش النظام لاستعادة السيطرة. وكانت هناك مخاوف من هجمات للشبيحة على بيوت الحي، الذي شارك منذ البداية في المظاهرات، بقينا في منازلنا لعدة أيام، ثمَّ غادرنا إلى حلب مع اشتداد المعارك. وبعد عودتنا كانت الدبابات والحواجز الأمنية منتشرة على طول الأوتوستراد المقابل لبيتنا.

لقد عشنا على أمل عودة الثوار، وأن يأتي المد الثوري من المناطق المجاورة مثل داريا، المعضمية أو حتى الغوطة. حتى بعد أن استعاد النظام السيطرة على المدينة، كنت أتمنى بشدة عودة الحراك المدني. ولكن، للأسف، أصبح ذلك أمراً مستحيلاً بعدما قاموا بتجزئة المدينة ووضع الحواجز العسكرية والقواطع الإسمنتية. ومنذ ذلك الحين، تزايدت معاناتنا يوماً  بعد يوم، وصلت حتى إلى حد اعتقالي.

اعتقال بصرف النظر عن الأسباب

تلقيت اتصالًا من أخي يخبرني أن ابن جارتنا أم علاء، المعتقل عند المخابرات الجوية، موجودٌ في المشفى العسكري. وأنّ المخابرات تواصلوا مع أهله لاستلامه من هناك.

ذهبت أولاً، على أن يلحق بي أخي، لم أكن خائفًا، ومع ذلك طلبت مساعدة من والد أحد طلابي في المدرسة، وهو ضابط طبيب أعرف أنه متعاطفٌ مع الثورة. دلّني على ممرضة في المشفى العسكري لكي تساعدني. دخلت وتركت بطاقتي الشخصية عند حرس الباب، لأني قمت بالاستفسار من الممرضة اعتقد الحراس أنني أعمل في المشفى، ولكن حين عرفوا سبب وجودي. جًنَّ جنونهم فكيف أجرؤ على السؤال عن معتقل.

أصبحت الأمور أوضح حين وصلتني رسالة من أخي يقول فيها “كمين اترك الهوية وغادر” . فكرت بالهرب لكن الحراسة مشددة. رشاشات وأسلحة نارية ثقيلة على المدخل، فكرت برشوة أحد العساكر كنت قد استلمت راتبي في ذلك الصباح، لكن قبل أن أمدَّ يدي إلى جيبي شعرت أن كل حركاتي مراقبة. بدأت بالتجول أمام المدخل جيئة وذهاباً، وكأنني أنتظر أن يعيدوا لي بطاقتي الشخصية، وعند أول فرصة للتواري عن الأنظار ذهبت ولم ألتفت إلى الوراء. مشيت من المشفى العسكري 601 في المزة إلى البيت، لأنني لن أستطيع الركوب وعبور الحواجز بدون الهوية، وفي ذلك الوقت لم تكن الحواجز توقف المشاة. 

الاعتقال الأول

ازدادت حياتي تعقيدًا، وما كنت أجده صعباً صار أصعب، أصبحت عملية الانتقال إلى مكان العمل تستغرق وقتاً أطول، لأني كنت أقطع مسافة كبيرة من الطريق، مشيًا على الأقدام. عشت فترة من الارتباك والاضطراب، زادت مخاوفي فأصبت بالأرق الشديد. حتى أن أحد الموجهين في المدرسة استوقفني وسألني عن سبب احمرار عيني. ببساطة، أخبرته أنني لا أستطيع النوم بسبب زيارات غير مرغوب فيها، لا تحدث إلا في الليل. كان اعتقالي متوقعاً، كنت أنام بجانب الباب وبالكاد أستطيع النوم، أرقتني المداهمات التي شهدها الحي. سيارات مدججة بالسلاح والجنود يقتحمون البيوت من دون سابق إنذار. 

مداهمة مابعد منتصف الليل

في صيف 2013 بعد شهر تقريباً من مراجعة المشفى العسكري. استيقظت، في الواحدة بعد منتصف الليل، لحظة اقتحام المنزل من قبل عددٍ كبير من العناصر، يتلقون أوامرهم من خلال اللاسلكي. تقدم شابٌ نحوي واقتادني إلى الخارج، وفي الطريق قلب السترة، التي كنت أرتديها، ليغطي رأسي وبدأ عناصر الدورية بالضرب وتوجيه الشتائم حتى وصلنا إلى سيارة الفان حيث يضعون المعتقلين. وكان فيها عددٌ كبيرٌ من الشباب. رافقت حملة المداهمة تلك سيارة بيك أب، مزودةً برشاش دوشكا، تتقدم مجموعة كبيرة من العساكر وعناصر الأمن بلباس عسكري ومدني، ومجموعات من اللجان الشعبية. أخذونا إلى أحد فروع الأمن العسكري، أعتقد أنه المسؤول عن المنطقة يسمى فرع 227.

في المعتقل

أستاذ رياضيات ومدير مركز امتحاني

لم يكن لديهم أي أدلة ملموسة ضدي خلال التحقيقات، ولم يتم ضبطي أثناء مشاركتي في أي نشاط ثوري. لم أنحرف أبداً عن القول الذي بدأت به: “أنا أستاذ رياضيات ومدير مركز امتحاني، وقد ذهبت بحسن نية للاستفسار عن ابن الجيران بناءً على طلبكم”. ومع ذلك، لم تكن هذه الأقوال كافية لمنع التعرض لانتهاكات، بدءاً من حجز الحرية وصولًا إلى الضرب والشتم وتلفيق التهم. حاولوا أيضًا استخلاص اعترافات مني بشأن النشطاء الشباب في الحي، مثل من يشارك في المظاهرات ومن يقوم بصنع اللافتات، وأي بيوت تستضيف المصابين والجرحى. إلا أنني نفيت معرفتي بهم وتشبثت بأقوالي ” أستاذ مدرسة.. مدير مركز امتحاني.. ولا علاقة لي بهذه الأمور”. 

ساعدني على الثبات أن أخوتي كانوا يتوسطون لإطلاق سراحي وتحسين ظروف اعتقالي، ونتيجة جهودهم  وُضعت في المهجع رقم خمسة المخصص للعناصر غير المنضبطة من الشبيحة والأمن، وحصلت على جزءٍ من الحائط يتسع لأسند ظهري عليه، وأقل ما يمكن من التعذيب والضرب. وكانت معاملتي أفضل إذا ما قورنت بالمعتقلين الآخرين.

في المهجع، هناك حائطٌ كامل مخصصٌ للشبيحة والمجرمين الموالين، ومن بينهم أشخاصٌ ينتمون إلى الطائفة العلوية. فوجئت بوجودهم وعرفت لاحقًا أن هؤلاء الأشخاص يتم اعتقالهم بعد ارتكاب أعمال فظيعة. بالطبع، بالنسبة لقوات الأمن، ارتكاب فظائع ضد الناس ليست جريمة، ولكنهم ارتكبوا جرائمَ ضد شبيحة آخرين. ووفقاً لذلك، كان لديهم حائطهم الخاص، ولا أحد يجرؤ على الاقتراب منهم. كما كانوا يحصلون على الطعام أولاً قبل توزيعه على باقي السجناء في المهجع. وكانت الوجبة الأساسية بطاطا مسلوقة تكاد تكون نيئة، يتمّ هرسها في رغيف خبزٍ يابسٍ.

ظروف الاعتقال تختلف من سجينٍ لآخر، ولا أحد يَسلمُ من تعرضه للتعذيب الجسدي والنفسي لكن بدرجات متفاوتة، قد يحدث التعذيب والضرب وتوجيه التهم والشتائم في أي وقتٍ، لكن لحفلات التعذيب الليلية وقعها الخاص، فالكائنات التي تدير الفروع الأمنية تستشرس في الظلام. ينادون على أشخاص بأسمائهم ويبدأ التعذيب ويستمر حتى ساعات الصباح. رأيت عامل نظافة شاحباً وهزيلاً جداً فقد عقله من شدة التعذيب، وكاد أن يفقد حياته وهو يصرخ أن سيارة البلدية وصلت وعليه الذهاب.

الإفراج من المعتقل

خرجت بعد شهر مصابًا بالجرب والكثير من القلق والتوتر، على الرغم من أن تجربة اعتقالي أقل تعسفًا من غيري، وحتى من تجارب الاعتقال التي تعرض لها أخوتي، لكن الهدف من اعتقالي أنا وأمثالي هو نشر الرعب، و تكميم الأفواه، والسيطرة على الشارع الثائر، وابتزاز الناس وسرقة أموالهم. لم تغير التجربة شيئاً من قناعاتي. لكن صار لدي حدسٌ بأن  تحركاتي تحت المراقبة، وأني سأعتقل مجددًا وينبغي أن أتوارى لفترة زمنية محاولة اتقاء شرِّ المخبرين.

الاعتقال الثاني.. نجوت من الموت  

وكنت ما أزال أتعافى من الجرب بعد خروجي من المعتقل، حلقت شعري وعزلت نفسي لمنع انتقال العدوى إلى أفراد عائلتي. وبينما نائماً، كالمعتاد على السطح، سمعت صراخ أختي تحذرني، فحاولت الهروب عبر القفز إلى سطح البناء المجاور، لكنهم أطلقوا النار عليّ، لحسن الحظ لم أصبْ بالرصاص، لكنهم ألقوا القبض علي. في هذه المرة، اختلفت الوجهة، حيث تم اقتيادي إلى مقر اللجان الشعبية التابعة للفرع ذاته الذي اعتقلني المرة السابقة، سارع أخي في الاتصال بشخص ولحق بالدورية التي أخذتني، ثمّ توسط للإفراج عني من مكان احتجازي في أحد منازل حي التضامن، واستطاع اطلاق سراحي في صباح اليوم التالي، نجوت هذه المرة من الموت لأننا لم نرَ أيًّا من الشباب الذي اعتقلوا معي في ذلك اليوم، ولم أكتشف مصيرهم إلا بعد سنوات عندما شاهدت الفيديو المسرب عن مجزرة حي التضامن.

طبعا لم يتوقفوا عن ملاحقتي، وفي المداهمة الثالثة للبيت كنت قد غادرت إلى قريتي الأبزيمو، حيث أدركت أنه يجب عليّ الرحيل. إذ كان واضحًا أن البقاء في المدينة سيؤدي إلى اعتقالي للمرة الثالثة بلا شك. فقررت زيارة أهلي في الأبزيمو بعد طول فراق، إذ كانوا قد غادروا دمشق بسبب الأوضاع العسكرية والأمنية، وكنّا جميعاً نأمل في العودة. خلال زيارتي تلك، تلقيت خبراً من دمشق؛ يفيد بأن عناصر أمنية قد حضروا للبحث عني، وبناءً على ذلك، قررت البقاء في القرية لحماية نفسي.

الحياة في الأبزيمو 2014_2023

انتقلت إلى السكن في القرية عام 2014 ، حيث وجدت الملاذ الآمن من الاعتقال على الرغم من الطيران الذي يحلق فوق المنطقة، ألا أن يدَ الأمن لن تطالني. استأجرت بيتاً وعشنا فيه حوالي السنة، ومنذ اليوم الأول بدأ أفراد العائلة والأصدقاء يلحون عليّ بضرورة بناء بيت عوضاً عن الآجار. ولم أرَ أن الظروف مواتية لكنني استجبت مجددًا لرغبة العائلة. وبدأت بكلِّ جدٍّ واجتهاد في بناء منزلنا الخاص، حيث قمت بتوظيف كل خبراتي ومهاراتي في هذه المهمة. كان لدي وقتاً كافياً لذا تفرغت من أجل تصميمه وبنائه، ولم أدخر جهداً  في توفير مواد بناء عالية الجودة. وبالنهاية، حققت نتيجةً مذهلة، تمَّ تأكيدها بإجماع كلّ من زار المنزل. اكتملت عملية البناء وانتقلنا إلى العيش في البيت في عام 2017.

كان الهدف هو الاستقرار فيه لفترة طويلة تتجاوز العشر سنوات أو أكثر، لكن في عام 2020  تعرضت المنطقة للاجتياح من قبل قوات النظام، مما اضطرنا إلى النزوح مرة أخرى، لم نبتعد كثيراً؛ فقط خمس كيلومترات باتجاه الريف الشمالي، تعرض المنزل للسرقة، إذ لم يكن لدينا ما يكفي من الوقت لإخراج ممتلكاتنا.  بعد تهدئة الأوضاع، عدنا إلى القرية، إلا أنه لم يكنْ بإمكاننا العودة للبيت بعد أن أصبح يطلُّ على قطعة عسكرية. 

بحثت عن مكان جديد للسكن في القسم الثاني من القرية وانتقلت إليه، ومنذ ذلك الحين قررت ألا أعود لبناء أو شراء بيت في هذا البلد. فلكي تتمكن من إيجاد مسكن آمن، لابدّ أن تكون قادراً على امتلاك بيتٍ مناسبٍ وخالٍ من مخاطر المداهمات والقصف. وللأسف، في ظل الأوضاع الراهنة في سوريا، يصعب تحقيق هذا. يكفي أن لدي بيت في القرية وبيت في الشام، إلا أنه ليس بإمكاني بيعهما ولا السكن فيهما.

تجاربٌ صعبة.. 

أصبح التوتر رفيقاً ثابتاً في حياتي وصلت إلى حافة الانهيار النفسي في أكثر من مناسبة، حتى حين وصلت إلى هنا وشعرت بالأمان من الاعتقال ورأيت بعض التحسن في الظروف المحيطة بي. ومع ذلك صار الخوف من القصف يؤرقني فأفقد القدرة على النوم، وأبقى في حالة تأهب عندما تشتد قوة الضربات. ومازالت أصاب بالقلق عند المرور على حواجز الأمنيين أو الشرعيين، فسلوكهم ونظراتهم مشابهة لتلك على حواجز النظام على الرغم من محاولاتهم للتمايز من خلال استخدام بعض الألفاظ والعبارات الدينية للتغطية على أفعالهم القمعية. ونظرًا إلى مناصرتي لحقوق الإنسان ونشاطي في الدفاع عن المعتقلين في كل مكان وجدت نفسي في مواجهة سلطات الأمر الواقع المسيطرة على المنطقة، لتعود المخاوف من الاعتقال تطاردني هنا أيضاً.

خلال فترة الهجرة النشطة إلى أوروبا، تحول منزلنا إلى محطة للقادمين من دمشق قبل وصولهم إلى تركيا. وعلى الرغم من أن الفرصة للسفر كانت متاحة لي، إلا أن ارتباطي العميق بالمكان والمجتمع منعني من اتخاذ هذا القرار الصعب. ومع الوقت، بدأت أشعر بخيبة الأمل ويتملكني بين الحين والآخر شعور بالندم على عدم المغادرة، وبأنني أضعت على أطفالي فرص الحصول على الأمان والتعليم الجيد.

الدعم النفسي

يشكل التعامل مع تلك الضغوط، بدون تلقي أيُّ دعمٍ، تحدياً كبيراً. فالمكان يفتقر إلى الأمان والاستقرار، وتواجد سلطات الأمر الواقع في المنطقة قد أزال تأثير القادرين على المساعدة. إضافة إلى ذلك، فإن الكفاءات المتاحة في مجال الدعم النفسي محدودةٌ تقريبًا، حيث لا يمكن تدريب أخصائيين نفسيين خلال دورة تدريبية لمدة ثلاثة أشهر فقط.

وحتى في حال توفر الأطباء والخبراء النفسيين، فإن تأثيرهم سيكون محدوداً، طالما القصف مستمراً، ودوريات الأمن تواصل قمعها.

أنسنة الأماكن والحنين لها:

حاليا أعيش في أبزيمو وهي قرية صغيرة تتبع الأتارب بريف حلب. لا يتجاوز عدد سكانها خمسة آلاف نسمة، وعدد المنازل التي تربطني بها أواصر القربى، هي ثلاثة فقط. أشعر بعزلةٍ شديدة في تلك القرية فسابقاً كانت علاقاتي الاجتماعية مبنية على أساس العمل والجامعة، حيث ربطتني علاقات قوية مع عددٍ كبير من الأصدقاء بدأت من أيام الجامعة واستمرت بعد التخرج. أحياءٌ كثيرة في دمشق اعتدت زيارتها، وتعلقت روحي بها على مر السنين، للأسف فقدت هذه العلاقات وانقطع التواصل تقريباً مع الأصدقاء خوفًا عليهم. وبعد أن كنا نلتقي بشكل أسبوعي صار التواصل مرة أو مرتين في السنة للاطمئنان فقط. مع مرور الوقت، تعلمت أن العلاقة بالمكان ليست مجرد الارتباط بالأماكن الجغرافية فقط، بل هي أيضاً الروابط العاطفية والروحية التي تربطنا به. وعلى الرغم من البعد الجغرافي، فالقلب يمكنه أن يكون موطناً حقيقياً للأماكن التي نعشقها، وتحمل الروح دائماً في طياتها ذكريات الأماكن التي عشنا فيها يوماً ما. دمشق تعيش في ذاكرتي، ويؤلمني أني لا أستطيع العودة إليها وإلى الحي الذي ترعرعت فيه، وبنيت فيه بيتي الأول الذي لم أسكنه، بعد أن صار التواجد فيها مرادفاً للموت والسجن والقهر.